ببساطة، يتوقع كثيرون أن يصلوا الى المعلومات التي يبحثون عنها على الإنترنت أو ملفات الكومبيوتر أو في قواعد البيانات أو الموسوعات الرقمية، بصورة مباشرة ودقيقة. المعنى المقصود أنهم يتوقعون أن يكتبوا على محرك البحث، فيصل بهم إلى المعلومة التي يريدونها بالضبط. لا شيء أبعد من الصحة عن هذه الصورة، على رغم شيوعها! يكفي أن تطلب معلومة من محرك البحث «غوغل»، ليأتيك الرد بآلاف، وأحياناً ملايين، الإحتمالات.
لمسة إنكليزية غير دافئة
من دون الرغبة في الغرق بالطرق المعقّدة التي تتبعها محركات البحث لتحسين نتائجها، يمكن تقديم فكرة أولية عن العوائق التقنية التي تسبب هذه المشكلة، بالرجوع إلى أحد أبرز جذورها: علم الجبر البوليني Boolean Algebra. يحمل هذا النوع من الرياضيات إسم الإنكليزي جورج بوول (1864 ـ 1915) عالم الرياضيات والمتخصّص في المنطق أيضاً.
فرض بوول سقفاً صلداً ما برح يؤرق تطوّر المعلوماتية حتى اليوم. ليس من المبالغة القول ان بوول مثّل إنعطافة حاسمة في تطور علوم المعلوماتية والكومبيوتر، ربما بما يزيد قليلاً عما حقّقه في الرياضيات، وأكثر بما لا يقاس من إسهامه في تطور علم المنطق، خصوصاً المنطق الرياضي Mathematical Logic.
تجاوزت الفلسفة في سهولة المنطق الرياضي الذي طوره فعلياً الفيلسوف (وعالم الرياضيات أيضاً) برتراند راسل. وقد واصلت علوم الرياضيات قفزاتها المذهلة، أما مع صورة المعلوماتية والكومبيوتر، فالأمر مختلف!
بعد بوول، إنصبّ تطور المعلوماتية على جوانب تقنية مختلفة، وكلها يستبطن قبولاً لمعطيات الجبر البووليني.
وُلِد جورج بوول في مدينة لنكولنشاير، لأسرة فقيرة شبه معدمة. ولم يتسن له سوى تعليم أساسي كفل له العمل محاسباً ثم أستاذاً. لكنه إستطاع أن يدرس على نفسه اللغات اللاتينية والفرنسية والألمانية والإيطالية، وكذلك الأعمال المهمة في الرياضيات لعصره وخصوصاً كتب لابلاس وغوس وليبنتز.
على رغم عدم نيله شهادات أكاديمية، ألا أن أعماله في علم التفاضل والتكامل «كالكولس» Calculus، أهّلته ليعيّن أستاذاً للرياضيات في جامعة كورك في إرلندا. إهتم بوول بإدماج الرياضيات مع الفلسفة، وتعتبر أعماله، خصوصاً كتاب «بحث في قوانين الفكر»، أساساً لعلم الإحتمالات ونظرية المجموعات، وللمنطق الرياضي في الفلسفة والمنطق.
ركّز بوول على فكرة محورية مفادها إختزال قواعد الرياضيات كافة، أي منطقها العلمي الداخلي، إلى مجموعة صغيرة من القواعد الأساسية.
وعلى عكس منطق أرسطو، لم يعتمد بوول على البداهات Axioms، بل عمل على إشتقاق قواعد رياضية تكتب إرتكازاً إلى عاملين محايدين ( هما + وx) المشتقان من رقمي صفر وواحد. واستتخدمها في إستنباط القواعد الأساسية للجبر البووليني.
يُفْترض في هذه القواعد الرياضية القدرة على التعبير عن المعادلات المنطقية في علوم الرياضيات كافة. وبقول آخر، كأنما إلتقط بوول خيط اللغة الثنائية التي إبتدعها لايبنتز، بمعنى كتابة الأرقام كلها بإستخدام عددين أساسيّين (صفر، وواحد)، ثم طبّق الأمر عينه على المنطق.
ساوى بوول بين منطق العلم الرياضي، الذي رآه كعلم صرف ونظري، وبين المنطق نفسه كمعطى فلسفي. وهكذا نظّر بوول إلى إمكان صوغ قواعد المنطق كافة، في مجموعة صغيرة ومختزلة تماماً من القواعد المنطقية التي يمكن صوغ لغتها إعتماداً على عوامل مُعَرَّفَة مثل «و» and و»لا» no و»أو» or و»بعض» some و»كل» all و»ليس ولا» no & nor و»ليس» not. وتعرف هذه العوامل بإسم «عوامل بوولين»Boolean Factors ويُنظَر إليها كألفاظ موضوعية محايدة، إذ لا تنطوي على أي معنى في حد ذاتها. ولا تزال هذه العوامل مستخدمة في محركات البحث كافة.
وتوازي العوامل البوولينية في المنطق ولغته، عاملي (+ وx) في الجبر البووليني، بل إنها إشتقاق لها من معطيات «نظرية المجموعة» Group Theory التي تعتبر أساس الرياضيات الحديثة المتحررة من قيد الأرقام.
لمزيد من الشرح، يجب القول بأن الرقم يفترض قيمة ثابتة ومحدّدة لأشياء تامة التجانس ومن نوع واحد، فيما تتألّف المجموعة من أشياء متباينة ومختلفة وذات قيمة متفاوتة ومتحركة.
مثلاً، يقدر الرقم خمسة على الإشارة إلى خمس برتقالات، أما المجموعة ذات الخمسة عناصر فلربما تضمنت برتقالة وخطاً وسيارة وشخصين.
عمل بوول على تطبيق فكرة العوامل المحايدة (+ وx) على نظرية المجموعة. الحق أن ما بدأه من عمل جرى إستكماله لاحقاً، فأحدث قفزة كبرى في علوم الرياضيات.
رأى بوول في نظرية المجموعة مجالاً لتطبيق فكرته عن إختزال القواعد المنطقية، سواء في العلم أو الفلسفة التي إعتبرها إمتداداً للعلم وقواعده على نحو مباشر وميكانيكي تماماً.
وهكذا فإن تقاطع المجموعتين (أ) و(ب) هو مجموعة من العناصر الموجودة في (أ) و(ب) في الوقت نفسه.
رديف ذلك في المنطق هو العامل (And) «و». أما تمازج المجموعتين (أ) و(ب) فهو مجموعة تضم كل العناصر سواء أتت من المجموعة (أ) أو المجموعة (ب). رديف ذلك في المنطق هو العامل or «أو». وهكذا دواليك. ولا زالت محركات البحث على الإنترنت، بل الأكثر ذكاء منها، تستخدم هذه العوامل البوولينية في عملها.
ويعني ذلك أيضاً، أن محركات البحث عن المعلومات ما برحت أسيرة الإختزال الإبتساري والقسري للمنطق الرياضي الذي جرى إنتقاده لغوياً وفلسفياً.
يحمل الجبر البووليني ومنطقه تكثيفاً لإختزالات كبرى، هي في الوقت نفسه عوامل توحيد عميق. تلك سهولة أصيلة وعلمية، لكنها عائق واضح. وجدت قواعد الجبر البووليني وعواملها المشتقة من رقمي (0.1)، في الرياضيات الثنائية القائمة على أساس تعميم الترميز (0.1)، مجالها الأرحب. وسهّل هذا الأمر إندماجها سوية. وكذلك جرى تطبيق الجبر البووليني على نظرية المجموعة في الرياضيات. وشكّلت هذه الإندماجات أساساً للتطور التقني للآلات القادرة على التعامل مع الأرقام، ثم لاحقاً الكلمات والصور، وصولاً إلى الكومبيوتر والإنترنت. وعلى رغم التطوّر المذهل الذي حدث في المجال التقني، إلا أن هذا الأساس النظري بقي صلباً ومعتمداً حتى الآن. هل هو غير قابل للتجاوز أم أنه غير قابل للحياة؟
أياً كانت الإجابة، فإن ما تلى جورج بوول هو القصة الشائعة المعروفة عن تطور الآلات الحاسبة اليدوية ثم التدرّج إلى ظهور الكومبيوتر والشبكات الإلكترونية.
واستطراداً، يجب القول أيضاً أن رياضيات العالِم المجري فون نيومان الرقمية تستبطن الجبر البووليني، وهي الأساس النظري للبرمجة في المعلوماتية. ومكنّ التطور في لغات برمجة الكومبيوتر، مثل «بيسك» Basic «كوبول» Cobol و»دوس» DOS، من تحويل أشكال التعبير المعروفة (الأرقام، الكلمات، الصور والأصوات) إلى اللغة الرقمية.
من هذا الإستعراض السريع لتطور الكومبيوتر والمعلوماتية، يتضح جلياً أن ما يسري في الألياف الضوئية لشبكة الإنترنت هو الصور التي تصوغها الرياضيات الرقمية للمعلومات والمعارف.
وفي جذر رياضيات الكومبيوتر هنالك الجبر البووليني والمنطق الرياضي في الفلسفة أيضاً. ومن المهم ملاحظة هذا التمازج لدى النظر إلى الإنترنت كأداة بحثية في حالتها الحاضرة.